السبت، 2 يونيو 2012

الشيطان في الديانة الايزيديــة


فصل مقتطف من بحث التخرج المقدم إلى كلية الدراسات الإنسانية في النجف الأشرف/2008

الشيطان في الديانة الايزيديــة

 تعد الديانة الإيزيدية من أكثر الديانات ارتباطًا بموضوع البحث، لِمَا نُسِب إليها من تقديسٍ للشيطان، إلى درجة أنْ نعت البعض أتباعها بـ:(عَبَدة الشيطان).

ظهرت الديانة الإيزيدية في نواحي الموصل شمال العراق، وأنّ بعض منهم يتواجد أيضًا في سوريا وتركيا وإيران ولبنان.. وغيرها([1]).. واختلفت الآراء في أصل تسمية هذه الطائفة بهذا الاسم، أو نسبتها إلى مَنْ؟

فمن الباحثين من نسبها إلى يزيد بن أنيسة الخارجي([2]) ومنهم من نسبها إلى يزيد بن معاوية الأموي([3])؛ لاعتقادهم بإلوهيته -كما يدعي البعض ذلك عليهم- غير أنّ د. الخيون يرى أنّ هذا مجرد إتهام نابع من نَفَسٍ قومي «ومذهبي سعى إليه باحثون على حساب البحث العلمي، أو عن جهل بتاريخ هذه الديانة وعلاقاتها»([4]). في حين نسبها آخرون إلى مدينة (يزد)([5]) الفارسية كونها مركز الديانة الزرادشتية التي يُعتقد أن لها علاقة بالديانة الإيزيدية، أو إلى يزدان (مبدأ الخير فيها).

غير أنّ الإيزيديين يرفضون كل هذه التخريجات في نسبة التسمية.. ويُرجعون أصل تسمية ديانتهم إلى الكلمة البابلية إيزي([6]) «وهذا ما اكتشف مؤخرًا علي يد خبراء في اللغات القديمة السومرية والبابلية والآشورية، وإنّ كلمة ايزيدي تعني الروح الخيرة وغير المتلوثة والتي تمشي علي الطريق الصحيح»([7]) في حين يرى آخرون أنها من كلمة إيزيد التي تعني في اللغة الكردية "الخالق" أما حرف الدال الذي يرد في نهاية كلمة (إيزيد) فإنه -وفق قواعد اللغة الكردية ولغات أخر جاورت أو تجاور الكورد- دال (د) النسبة.. وحالها من حال ياء (ي) اللغة العربية ([8]).

ولعل هناك شبهة حصلت من جراء النطق باللغة العربية بهذه التسمية -اليزيدية– إذ من المعروف أنّ بعض لهجات اللغة العربية لا تهمز بعض الكلمات المهموزة، ومنها لهجة (لغة) الحجاز التي تنطق -مثلًا- (توضأت، ورأس، وفأس) بـ (توضيت، وراس، وفاس).. وإذا كان كذلك، فمن الممكن أنهم نطقوا لفظ (الإيزيدية) بـ (اليِزِيدية) أي بدون همز.. ولعله هو المرجّح. الأمر الذي جعل البعض يتصور أنّ لهذه التسمية نسبة عائدة إلى إحدى الشخصيات، فأرجعها إلى يزيد بن أنيسة، أو يزيد بن معاوية، وبالتالي بنى عليها وصار ينسب المعتقدات لها؛ لا سيما وأنّ بعض هذه المعتقدات موجودة فعلًا بين العامة من الإيزيديين الذين اختلطوا ببعض العرب ممن لهم نَفَس أموي.     

لم يحدد الباحثون تاريخًا معينًا لظهور الإيزيدية، إذ يعدها بعض من ضمن الديانات القديمة التي ظهرت في العراق ولها جذور في ديانات بابل وآشور، وقال آخرون أنها ظهرت بعد الدين الإسلامي وكان المؤسس لها الشيخ عدي بن مسافر المنسوب إلى مروان بن الحكم الأموي([9])، ويُعزي الباحثون السبب في ذلك إلى عدم وجود تاريخ مكتوب لديهم. يتضح ذلك جليًا من خلال تأخر كتابة كتبهم المقدسة؛ لأنهم اعتمدوا على ما يعرف بـ (علم الصدر) في إيصال العلم إلى الأجيال المتعاقبة لحفظ عقيدتهم من الاندثار، لاسيما وأنهم تعرّضوا لحملات الإبادة مرارًا على أيدي حكام البلاد، وأشدّها كانت على يد العثمانيين. ولذا لجأ أصحابها إلى الانغلاق([10]) على أنفسهم والتحصن في جبل سنجار ووادي لالش بشيخان في الموصل «حيث تنتصب أماكنهم المقدسة تعلوها قبب بيضاء مخروطية الشكل...تاركين الآخرين يقولون فيهم ما يشاؤون، وينعتونهم بأسماء اضطروا أخيرًا إلى قبولها»([11]) على الرغم من أنَّهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم يحملون سرًّا سيبقى إلى يوم القيامة، وحينئذ ستفهم البشرية مغزى هذا السر([12]).

ولكن الجيل المتأخر منهم، يعد جيلًا تجديديًا لا يؤمن -إلى حدٍ ما- بعلم الصدر -الذي واضب على الحِفاظ عليه كل من شيوخهم الروحانيون وأمراؤهم- فانخرطوا في سلك العلم والمعرفة، وصار منهم الأطباء والمحامون والمثقفون وحتى (السياسيون)، الذين شغلوا مؤخرًا مقعدًا في مجلس النواب العراقي بعد سقوط نظام حزب البعث. إذ برز ثلة شبابٍ من هؤلاء المثقفين آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُظهروا عقيدتهم -التي طالما كانت طي الكتمان- ويعرِّفوها للآخرين، فاتخذوا من تقنية العصر مطية وأنشأوا موقعًا الالكترونيًا خاصًا بمركز (لالش) الثقافي، وصار لهم مجلّة فصلية تصدر عنه.. وخُصصت كل تلك النشاطات للدفاع عن عقائد الديانة الإيزيدية، ومحاولة إقناع الآخرين ببراءتهم من عبادة الشيطان([13]) التي اُلصقت بهم، ومن اسم (اليزيدية) الذي ظلت تُنعَت به إلى زمن قريب، ولاسيما نسبتهم إلى يزيد بن معاوية.

ولأن موضوع العقيدة الإزيدية مظانه كتب العقائد الدينية والولوج فيه يُبعد البحث عن عنوانه.. فلذا سيقتصر على ماهيّة الشيطان في عقيدة هذه الديانة، ومدى صحة ما ينسب إلى أتباعها من عبادته.

 

كتب الإزيدية المقدسة

للإيزيدية كتابان مقدسان هما مصحف (الجلوة)، ومصحف (ره ش)([14])، ويُقال أنهما كُتِبا في زمني الشيخ عدي والشيخ حسن البصري؛ غير أنّ الإيزيديين -وخاصة الجيل المعاصر- يُنكرون ذلك ويرون أنهما مزوّران وملفّقان عليهم؛ لأنّ كتابيهما محفوظان في الصدور ويتناقلهما القوّالون، وهما يختلفان عن مضمون المصحفين المكتوبين([15]). ويقولون إنّ كثيرًا من العادات والتقاليد دخيلة على هذه الديانة أو مقتبسة من ديانات أُخر، وليس من السهل تغيير مجموعة من العقائد المتمثلة بالأدعية والطقوس الدينية الأُخرى، أو وضعها موضع ألشك كونها تمارس منذ مئات السنين ويتداولها الأجيال، وأن كثيرًا من الايزيديين يجهلون الحقيقة التي مفادها أن ديانة ألأكراد القديمة هذه تأثرت بالدرجة الأولى بالديانة الإسلامية ومن ثم المسيحية واليهودية. وهم يملكون كثيرًا من نصوص وأقوال المتصوفة التي ليست لها ولا لهم أية علاقة بالديانة الايزدية، أمثال: حسن البصري، أو رابعة العدوية، أو حسين الحلاج... وآخرين([16]).

ولعل هذا الرأي هو المرجّح في أنّ الديانة الإسلامية -أو غيرها- لم تؤثر في سكان المنطقة إلّا نسبيًا، فإنك لا تستطيع أن تعدَّ الفرد الايزيدي مسلمًا –ضالًا- على الرغم من تسمِّيهم بالأسماء العربية والإسلامية، ولا تستطيع أن تعدّه من أتباع الديانات القديمة -حسب المدعى- لأنَّ فيها من الأدعية والطقوس ما يوحي بتأثرها بالديانة الإسلامية، وهو بين هذه وتلك استطاع أن يكوِّن هذا المنتوج الجديد من الفكر العقدي.

إنَّ من أشدِّ التهم التي يعاني منها الإيزيديون هي (عبادة الشيطان) أو تقديسهم له، الأمر الذي ينكرونه تمامًا، لأنهم لا يعترفون بوجود هذا الكائن أصلًا، ولا حتى بالنفوس الشريرة.. وإنْ وُجِدت، فإنها تتطهر عن طريق التناسخ من كائن إلى آخر حتى تصبح من النفوس الخيّرة.. بعد أن «يتم تنقيتها ومن ثم تعود إلى الكل»([17]). والشخصية التي تسميها باقي الأديان السماوية بـ (الشيطان) فهي غير التي عندهم -حسب اعتقادهم- إذ أنها شخصية مقدسة يدعونها بـ (طاووس ملك) الذي يعتقدون أنه رئيس الملائكة السبعة([18]) وواحد منها، وأنه أول خلقٍ خلقه الله تعالى -كما هو مدوّن في مصحف رش-.

والمستقرئ لمصحف رش يلحظ أنّ طاووس ملك من أعظم الملائكة التي خلقها الله تعالى، وأنه يعمل بأمره ولا يعصيه طرفة عين، وهو سيد الموحدين والمخلصين في طاعة الله وحده، إذ أنّ «دور رئيس الملائكة في الفكر الديني اليزيدي يختلف عنه في الأديان الأخرى اختلافًا كليًا، فلا وجود لفكرة إله للشر ولا وجود للإبليس وان الله تعالى لم يغضب على رئيس ملائكته ولم يطرده من الجنة وأن الديانة اليزيدية لا تعبد الإبليس كما يظن الكثير لأنه لا يعبد النقيضين في وقت واحد»([19]).

يُفلسِف بير ممو عثمان معتقد الفرد الايزيدي بطاووس ملك في أنه كالنار ذو طبيعتين، فهو مصدر النور والعطاء من جهة، لكنه يحرق من يخالف مبادئه من جهة أخرى. فهو إله الخير والشر في الآن ذاته، ولذا فإن الفرد الأيزيدي متكون من عنصرين أيضًا -الخير والشر- لأنه يحمل في نفسه شئ من طاووس ملك. ويعتقد الكثير من علماء الدين بأنّ (ئيزدان) في الديانة ألأيزيدية يمثل (زورفان) في الديانة الزرادشتية، الذي ولد (أهورا مزدا) إله الخير و(أهريمن) إله الشر والظلمات، وأنّ الأيزيديين كانوا يُعرفون في المنطقة بعبدة طاووس ملك (إله الشمس)، إلّا أنّ هذه التسمية تغيرت بعد قدوم الإسلام على يد الشيخ عادي إلى المنطقة([20]).     

وترى الباحثة الإيزيدية (عالية بايزيد) أن شخصية إبليس ما هي إلّا شخصية ميثولوجيّة أدّى اختلاف الآراء فيها إلى احتدام المناظرات الجدلية بشأنها، والمتفحص لتاريخ الأديان يجده تارة إله للشر ويُعبد في ممارسة السحر والإباحات، كما في إيران القديمة، وتارة يجده إلهًا مقدسًا، كما عند الهند الفيدية يسيطر على شؤون السماء، وأخرى هو الحية التي أغوت حواء، في حين أن الحية عند الإزيدين رمزًا للخير وهي ترتبط بطاووس ملك؛ كما أنها في الموروث الديني الإيزيدي المنقذة لسفينة نوح من الغرق،  فالخير والشر هما من الأمور النسبية فما تحسبه شرًا ومن الجرائم الدينية عند مجتمع يكون مباحًا وأخلاقيًا عند مجتمع آخر([21]).

وهذه مغالطة من الباحثة، لأنّ مفهوما الخير والشر في الأديان واحد، سواء على مَن يرى أنها من تعاليم الشارع -وهو واحد في الأديان السماوية وأمره ونهيه واحد في جميعها- أو على مَن يرى أنها من مدركات العقل العملي، وهي لا محالة متحصلة لكل عقل سليم، وإن كان هناك اختلاف في هذه المفاهيم من أمّة إلى أمّة فإنما هي من مجعولاتها الخاطئة.

وبالعودة إلى نصوص مصحف رش، نرى أنه لما أراد الله تعالى خلق آدم وحواء أخبر الملائكة بذلك و«قال الرب العظيم يا ملائكة أنا أخلق آدم وحواء وأجعلهم بشر...وأيضًا منه يكون ملّة على الأرض تسمى ملّة عزازئيل أعني طاووس ملك . وهي ملّة يزيدية ثم أرسل شيخ عادي بن مسافر من أرض الشام، فأتى إلى لالش...»([22]).

وبعد أن أمر الله تعالى جبرئيل بجلب (التراب والهواء والنار والماء) من الأرض، خلق آدم وبث فيه الروح وبعدها أسكنه الجنة وأباح له الأكل من شجرها إلّا الحنطة، ثم بقي فيها مئة سنة.. عندها تذكّر طاووس ملك أنّ آدم لم يأكل الحنطة بعد، وهو إن لم يأكل من الحنطة فسوف لن يكون له ذرية؛ لذا سأل الله تعالى عن ذلك. فأجابه: «الأمر والتدبير سلّمته بيدك. فجاء طاووس ملك وقال لآدم أكلت الحنطة؟ فقال آدم لا، لأنّ الله نهاني. فقال طاووس ملك كُلْ حنطة حتى يصير لك أحسن»([23]).

وإنْ كانت هذه الحادثة تُعد غواية من إبليس لآدم في الديانات السماوية.. فإنها تُعد عند الإيزيدية نصيحة وتفضلًا منه عليه؛ ولولاها لما كان لآدم نسل، ولا كان للإزيدين من وجود.

وبعدما أكل آدم الحنطة انتفخت بطنه «فأخرجه طاووس ملك من الجنة، وتركه وصعد إلى السماء، فتضايق آدم من نفخ بطنه لأنه ليس له مخرج»([24]).. وبالطبع ما من أحدٍ يؤنّب طاووس ملك على إخراجه آدم من الجنة، ولا على خذلانه إياه وصعوده إلى السماء وتركه على الأرض يتلوى ألمـًا، لأنه مخول -من الله تعالى- في فعل ما يشاء!.. لكن الله تعالى تدارك أمر آدم فأرسل «له طيرًا حتى جاءه ونقره، وفتح له مخرج فاستراح»([25])ولعل الله -تعالى عن ذلك علوًا كبيرا- كان ناسيًا إكمال صنعه، لأنه أحكم خلق الجهاز الهضمي كاملًا ولم يلتفت إلامَ صنعه؟!.

وبعد أن صار لآدم نسل وصار الإيزيديون، نزل طاووس ملك إلى الأرض من أجلهم، وظل يرعاهم في جميع أزمانهم وأماكنهم، ولم يتخلَ عن إيصال تعاليمه وتأمير الأمراء والملوك عليهم.. ولعل المراد من ذكر أسماء هؤلاء الملوك يهو الإيحاء إلى قِدَم هذه الديانة؛ إذ أقام لهم ملوكًا في آشور (نسروخ، وناصردين، وكاموش...)، وفي بابل (بختنصّر)، وأيضًا في بلاد العجم والقسطنطينية.

واستأثر طاووس ملك بتعاليمه لمسائل الحلال والحرام فأسرّها للإيزيدية خاصة؛ ولذا فإن اليهود والمسيحيين والمسلمين لا يعرفون هذه التعاليم «لأنهم ما يحبون طاووس ملك، ولأجل هذا هو أيضًا ما يعلمهم ولا ينزل عليهم»([26]).. وبعد أن أتمِّ تعاليمه صار الإيزيديون يتناقلونها وراثةً من الوالد إلى الولد، وبعدها صعد إلى السماء.

وهذه هي قصة طاووس ملك في مصحف رش -بغض النظر عن كونه مزوَّرًا أو لا- إذ ليس فيها أي ذكر للأمر بالسجود لآدم، أو عصيان من قبل رئيس الملائكة. وهذه الحادثة إنْ وجدت فعلًا، فهي ليس بقدحٍ له -كما يرى بعض الإيزيدين ذلك- بل هي عين العبودية لله الواحد ورَفْضٍ للسجود لغيره، وإنْ أَمَرَ هو بذلك..! لأنّ هناك أمر سابق لهذا الأمر بعدم السجود لغير الله، وإنما الأمر الثاني من باب الاختبار، وطاووس ملك نجح فيه وبكل جدارة واستحق أن يكون رئيسًا للملائكة!.

ويرى بعض أنّ هذه الفكرة -براءة إبليس من العصيان- في أصلها فكرة صوفية قالها غير واحدٍ منهم، أمثال الحسين بن منصور الحلاج(*) وأبي الفتوح الغزالي(**).. وغيرهم. وأنها وصلت إليهم عن طريق الشيخ عدي، الذي كان يسلك الطريقة العدوية (الصوفية) والذي حرّم اللعن. ومن ثم تبلورت هذه الفكرة عند اليزيدين فصاروا يعبدون إله الشر إبليس؛ لأنه مصدر الشر والمصائب وإذا ما عبده الإنسان ولم يشتمه فأنه سيصان من شروره، ومن هنا فليس من سبب لعبادة الله إذا ما استطاع أن يتقي شر إبليس بالسجود له.

ولقد أتفق أغلبية علماء الدين بأنّ (إبليس، وعزازيل) هما نفسهما، كما أنّ عزازيل هو طاووس ملك، ومن خلال فكرة تناسخ الأرواح دخلت روحه ئيزيد ومن ثم شيخ عادي على وجه الأرض، وفي النص الديني الإيزيدي -حسب ما ينقله بير ممو- : «شيخ عادي شيخي شارا" نسمع: شيخ عادي وطاووس ملك وسلطان ئيزيد هم ذات واحدة لا تفرقوا بينهم هم الذين يحققون الآمال»([27]).

غير أنَّ الباحثة عالية بايزيد تصِّر على أنّ إبليس الذي دافع عنه الصوفيون هو غير طاووس ملك عند الإيزيدية؛ فهي تراه «أول الملائكة الذين خلقهم الله من نوره والذي نجح في الاختبار الإلهي ولم يسجد لآدم متذكرًا وصية ربه بعدم السجود لأحد غيره فجعله الله رئيسًا للملائكة فكان أمر السجود بذلك أمر اختبار للملائكة لم ينجح في هذا الاختبار إلا رئيسهم الذي نفذ مشيئة الله بعدم السجود لآدم ولو شاء الله له السجود لسجد حالًا لأنه لا رادّ لمشيئة الله في إرادته التي هي (كن فيكون) ولا حرية لرئيس الملائكة في اختيار معصية ربه ولو شاء الله له السجود لهداه إلى الاختيار الصحيح لأنّ (الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء)»([28]).

كما أنّ بير ممو يرى أنّ مفهوم الشرّ الوارد في الكتب السماوية من التوراة إلى الإنجيل ثم القرآن ليس له علاقة بالإله الإيزيدي طاووس ملك الذي يمثل إله الشمس وهو إله الثواب والعقاب في الوقت نفسه، أمّا كلمة الشر فهي من منتوج الأديان السماوية كنقيض للخير، وبعد قدوم الأديان السماوية إلى المنطقة اختلق الإيزيديون لهم قصّة مماثلة لقصّة الخير والشر والخليقة، لكنها تختلف من حيث الوجهة الفلسفية والوحدانية المتمثلة في الإله القادر على كل شي وبمشيته تجري الأمور([29]).

وفي هذا الصدد ينقل بعض النصوص الدينية التي تعضّد رأيه في دور طاووس ملك في الكون، إذ يقول هذا النص:

إلهي غفور، من عنده تأتي القرارات للأرض وأركانه الأربعة.

إلهي خلق الكون، حددها وأتم مفاهيمها وشاء أن ينعم جنس آدم فيها.

إلهي هو سر السماء، وهو الليل والنهار والزمان من عنده تأتي الكرامات.

إلهي هو رب الملائكة، وهو رب ألأسرار الخفية العظيمة إله ألملائكة العظماء السبعة.

إلهي خلق الكون من الجوهرة والدرة وسلمها إلى الأسرار الأزلية السبعة وجعل طاووس ملك يرأسهم.

إلهي هو رب آدم، من عنده تأتي الكرامة في كل زمان ومكان([30]).

 

ومما تقدم فلا يمكن الجزم بحقيقة هذه الديانة أو بماهية اعتقادها في إبليس حتى عند مفكري الإزيديين أنفسهم، لما تراه من تشويش واضطراب في تنظيرهم الفكري والعقدي، وفشلهم في بلورة مفاهيم عقيدتهم.

 ويبقى الكلام في سبب تصوير رئيس الملائكة بهيئة طائر الطاووس، إذ قال بعض المفسرين([31]) أنّ الملاك المنبوذ من الجنة -بعد عصيانه- كان يسمى طاووس الملائكة؛ للطافته وجمال هيأته، غير أنّ بعض كتب الحديث الإمامية تعطي هذه التسمية إلى جبرئيل عليه السلام([32]).. أمّا عالية بايزيد فترى أنه راجع إلى الموروث الديني والأدبي الذي يُرجعه إلى عهد النبي إبراهيم u وقصة اختباره الإلهي في ذبح ابنه، ولما أراد تنفيذ الأمر الإلهي نزل عليه رئيس الملائكة على صورة طائر الطاووس بالإضافة إلى كل من جبرائيل وعزرائيل -عليهما السلام- ومعهم كبش فداء لابنه، كما هي القصة المعروفة عند باقي الديانات السماوية([33]).  



الهوامش

[1]- «الديانة الإيزيدية هي إحدى الديانات التي يدين بها حاليا ما لا يقل عن ألـ (600) ألف نسمة في العراق، وهناك عشرات الآلاف في سوريا وبضعة آلاف في تركيا، و اقل من ذلك في كل من إيران ولبنان، وحسبما يقال فان عددهم في أرمينيا وروسيا يتجاوز ألـ (300) ألف نسمة، كما تشير أرقام إحصائيات دائرة الهجرة في ألمانيا لعام (2000) إن عددهم في ألمانيا يتجاوز ألـ (75000) ألف نسمة بقليل، مثلما هناك عشرات العوائل التي تقطن في كندا والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا و السويد وبريطانيا بالإضافة إلى دول أوربية أخرى..» - خدر خلات بحزاني/الديانة الإيزيدية بمنظور آخر (مقالة منشورة على موقع عراق الغد الالكتروني في: 17/8/2007م).

[2]- «اليزيدية أصحاب يزيد بن أنيسة الذي قال بتولي المحكمة الأولى قبل الأزارقة وتبرأ من بعدهم إلا الأباضية فإنه يتولاهم وزعم إن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا قد كتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة ويترك شريعة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن وليست هي الصائبة الموجودة بحران وواسط»- الشهرستاني/الملل والنحل ، 1/136.

[3]- قيل: تبعًا لقول شيخهم عدي بن مسافر الأموي في أن يزيد إمام وأبن إمام ... ومن هذا القول «نشأ إعتقاد اليزيدية في يزيد ، فإنهم تولوه أولًا تبعًا لرأي شيخهم، ثم جروا فيه على ما جروا عليه من الغلو في غيره فجعلوه وليًا ثم نبيًا وما زالوا به حتى اتخذوه إلهًا من الآلهة السبعة، حين تمادوا بالضلال واستغرقوا بالسخافات والأوهام» - عبد الرزاق الحسني/اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، المطبعة: الرشيد، ط: 10 (1404هـ-1984م)، المكتب العربي لتوزيع المطبوعات–بغداد، ص45، نقلًا عن أحمد تيمور باشا في رسالته/اليزيدية ومنشأ نحلتهم، ص58. 

[4]- رشيد الخيون/الأديان والمذاهب بالعراق، ط 2 (2005م)، منشورات لسان الصدق – قم المقدسة، ص63.

[5]- ولعل هذه النسبة أيضًا بعيدة عنها؛ لأن من يُنسَب إلى يزد لا يسمى يزيدي، وإنما يسمى (يزدي)، كما أن بعض المؤرخين يرى أن ظهور الديانة الإيزيدية قبل الزرادشتية، وأنهم قدسوا النور وكل ما هو نوراني وأبغضوا الظلام أو ما يرمز له.

[6]- كما ذهب إليه بعض الباحثين لما وجد من التشابه الكبير بين المعتقدات الإيزيدية والمعتقدات البابلية كتقربهم بالثور عند زيارة مرقد الشيخ عدي في اليوم السابع من احتفالهم السنوي، والثور يرمز للخصوبة عند البابليين، كما أنهم يحتفلون بأول أربعاء من شهر ميسان ونفس هذا الاحتفال كان يقيمه البابليون، ولا تخلو مناطق بابل من معبد يسمى باسم (إيزي)..وغيرها من العادات المتقاربة.

[7]- أحمد ناصر الفيلي/الديانة الإيزيدية ديانة قديمة..الحلقة الأولى – من سلسلة حلقات نشرتها جريدة الزمان (الطبعة العربية) في (2/3/2007) نقلًا عن (خليل جندي/نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية).

[8]- بحزاني/الديانة الإيزيدية بمنظور آخر.

[9]- وأسماه ابن خلّكان(ت: 681هـ) بـ (عدي الهكاري)، قائلًا: «الشيخ عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان كذا أملى نسبه بعض ذوي قرابته الهكاري مسكنا العبد الصالح المشهور الذي تنسب إليه الطائفة العدوية سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحد حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ والصلحاء المشاهير مثل عقيل المنبجي وحماد الدباس وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي وعبد القادر الجيلي وأبي الوفاء الحلواني ثم انقطع إلى جبل الهكارية من أعمال الموصل وبنى له هناك زاوية ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله وكان مولده في قرية يقال لها بيت فار من أعمال بعلبك والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن وتوفي الشيخ سنة سبع وقيل خمس وخمسين وخمسمائة في بلده بالهكارية ودفن بزاويته رحمه الله تعالى وقبره عندهم من المزارات المعدودة والمشاهد المقصودة وحفدته إلى الآن بموضعه يقيمون شعاره ويقتفون آثاره والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد وتعظيم الحرمة» - وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة – لبنان، 3/254. 

[10]- تعد الديانة الإيزيدية من الديانات غير التبشيرية ، وأتباعها أناس حافظوا على كيانهم الإيزيدي بانغلاقهم على أنفسهم لأنهم اعتقدوا – كغيرهم – أنهم شعب الله المختار؛ وأنهم توالدوا من آدم دون حواء لذا فالإيزيدي لا يتزوج إلاّ الإيزيدية، والإيزيدية لاتتزوج إلاّ الإيزيدي، وليس من حق الآخرين أن يصبحوا إيزيديين.

[11]- الخيون/الأديان والمذاهب بالعراق، ص61.

[12]- بير ممو عثمان/مجلة الحوار المتمدن، العدد978 (6/10/2004) – بحث مقدم باللغة الألمانية إلى معهد الشرق الألماني في هامبورك اليوم العلمي المنعقد في مدينة تسلي-ألمانيا للفترة من 10-11/10/2003 – منشور على موقع بحزاني الالكتروني.

[13]- يُذكر أن النائب الكردي الايزيدي حيدر قاسم ششو في الجمعية الوطنية العراقية، طلب من رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري يوم الأربعاء العاشر من آب 2005، مراعاة مشاعر الايزيديين بعدم التعوذ من الشيطان الرجيم في كلمته أمام الجمعية، وقد أثار هذا الطلب انتباه بعض الأوساط ووكالات الأنباء، ما أدى بالبعض منها إلى التعريف بالديانة الايزيدية (اليزيدية) واعتبارها ديانة تقول بعبادة الشيطان، وان الايزيديين هم عبدة الشيطان!. - نقلًا عن الموقع الالكتروني ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.

 [14]- كما تُكتب بالكردية، ورش بالكردية تعني (أسود). إذ ينقل السيد عبد الرزاق الحسني نصيهما في كتابه (اليزيديون) ص53-62، ويُلحظ إلى أن كتاب (الجلوة) كُتب على غرار الكتب السماوية المتضمنة الخطاب الإلهي إلى الخلق والذي يبين فيه قدمه وقدرته وأزليته.. والمستقرئ له يشعر بوحدانية مشوبة في الديانة الإيزيدية، على أن كتاب (رش) يختلف عنه في المضمون، فهو يتعرض إلى أصل الخلق والتكوين من حيث خلق الملائكة السبعة وترئيس طاووس ملك عليهم، والسماوات والأرض والحيوانات والطيور وآدم وقصة أكله من الشجرة بحثٍّ من طاووس ملك وخروجه من الجنة ثم خلق حواء وبنيه ..إلى أن يصل الدور إل يزيد بن معاوية وتأليههم له، وفيه أيضًا تحريم ألفاظ اللعن أو التلفظ بلفظ الشيطان أو الجمع بين حرفي الشين والطاء.

[15]- ينقل رشيد الخيون في كتابه أديان العراق، الحوار الذي دار بينه وبين الشيخ (علو خلف علو) الإيزيدي في مركز لالش الثقافي، قوله: «إن كتابنا مصحف رش نزل على إبراهيم. ولكن يا شيخ علو: إن كتابكم فيه اسم معاوية وإسماعيل ومحمد؟ فكيف عرف إبراهيم بمعاوية ومحمد قبل أن يخلقوا؟ قال: الذي لديك عدد من صفحاته ليس كتابنا، هذا مزور علينا، إنّ كتابنا محفوظ بالصدور، وأنّ اليهود أحرقوه لأننا من جماعة نبوخذنصر الملك العظيم، الذي رحلهم إلى بابل»..

   على أن إجابة الشيخ غير ناهضة ولا دافعة، إذ ما المانع من ذكر هذه الشخصيات قبل وجودها ويكون من باب التبشير والإخبار بالمغيبات، إن كان فعلًا لهذا الكتاب من وجود.

[16]- بير ممو عثمان/مجلة الحوار المتمدن، العدد 978 (6/10/2004).

[17]- م. ن.

[18]- وهم (عزازئيل، دردائيل، إسرافيل، ميكائيل، جبرائيل، شمخائيل، نورائيل،) كما جاء تسلسلهم في مصحف رش، أو ما ورد أسماؤهم في دعاء المساء حسب الباحثة الإيزيدية عالية بايزيد إسماعيل: (عزرائيل، جبرائيل، ميكائيل، دردائيل، شمخائيل، عزازيل، وعزافيل).. أو (جبرائيل، عزرائيل، دردائيل، شمخائيل، ميكائيل، عزافيل، وعزازيل) كما أوردهم ابن الأثير في تاريخه - الجزء الأول.

[19]- عالية بايزيد إسماعيل/طاووس ملك ومحنة الاختبار الإلهي، بحث منشور على موقع (شبكة العلمانيين العرب) الالكتروني، تاريخ النشر: 12/9/2007، ملاحظة: الأخطاء الإملائية هكذا وردت في البحث.

[20]- بير ممو عثمان/مجلة الحوار المتمدن، العدد978 (6/10/2004).

[21]- عالية بايزيد إسماعيل/طاووس ملك ومحنة الاختبار الإلهي.

[22]- مصحف رش، كما نقله عبد الرزاق الحسني في كتابه اليزيديون، ص56.

[23]- المرجع السابق.

[24]- م. ن. ، ص56.

[25]- م. ن.

[26]- م. ن.

*- الذي يُنسب إليه قوله  في إبليس (في كتابه الطواسيين): «كان أعلمهم بالسجود وأقربهم من المعبود» وأيضًا قوله على لسان إبليس: «إن منعتني عن السجود فأنت المنيع وان أردت أن اسجد له فانا المطيع ».

**-  هو الواعظ أحمد بن محمد الغزالي ، أخو الفقيه الشافعي أبي حامد محمد بن محمد الغزالي . والذي ينقل عنه قوله في إبليس: أنه سيد الموحدين و«قال يومًا على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أُمر أن يسجد لغير سيده فأبى» - ابن أبي الحديد (ت: 656هـ)/شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1 (1959م)، دار إحياء الكتب العربية، 1/107.

[27]- بير ممو عثمان/مجلة الحوار المتمدن، العدد978 (6/10/2004).

[28]- عالية بايزيد/طاووس ملك ومحنة الاختبار الإلهي.

[29]- المصدر السابق.

[30]- بير ممو عثمان/مجلة الحوار المتمدن، العدد978 (6/10/2004).

-[31] قال الآلوسي في تفسيره في معنى وصف إبليس بأنه كان (من الكافرين):« الظاهر أنّ كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذين كان مرتديًا به حين كان طاووس الملائكة وأظافير القضاء» الآلوسي (ت: 1270هـ)/روح المعاني، 1/231.

[32]- ظ: المجلسي/بحار الأنوار، 17/309.  هاشم البحراني/حلية الابرار، 1/66.  هاشم البحراني/مدينة المعاجز، 1/445.

[33]- عالية بايزيد إسماعيل/طاووس ملك.

المتابعون