الخميس، 2 يناير 2014

الانقلاب على الأعقاب


ما كاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن ينتقل إلى جوار ربّه -جلَّ وعلا- حتى اختلف المسلمون في أمر خلافة موقعه في الحكم والإمامة، فكان أول خِلاف بينهم وأعظمه، وبحسب تعبير الشهرستاني (ت: 548هـ) «ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان». فقد انقسموا فريقان:
الفريق الأول:  كان ملتف حول الإمام علي بن ابي طالب u، لإعتقاده أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد نصَّ على تولي الإمام u أمور المسلمين بعده، في أحاديث عدة وفي مواضع عدة، منها قوله (صلى الله عليه وآله): «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» في بداية دعوته الرسالية يوم جمع قومه وعشيرته بعد أن نزلت الآية الكريمة )وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ( ولم يقف إلى صفّه يومئذ ولم ويؤازره غير علي u.
أما الفريق الثاني: كان من الأنصار وجمع من المهاجرين اجتمع في سقيفة بني ساعدة، ابتدأ باجتماع الأنصار أولًا حينما أرادوا أن يبايعوا سعد بن عبادة، فلما سمع أبو بكر وعمر بالأمر انطلقا يتقاودان حتى أتوهم، فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر، وتكلّم هو فلم يترك شيئًا نزل في الأنصار إلّا وذكره، ولم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شأنهم إلّا وذكره.
ومن جملة ما قاله: لقد علمتم أنَّ رسول الله قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادى الأنصار. ولكنه اراد في الوقت نفسه أن يفضل المهاجرين القرشين عليهم، فبادر إلى مخاطبة سعد بن عبادة قائلًا: ولقد علمت يا سعد أنَّ رسول الله قال وأنت قاعد، قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ الناس تبع لبرّهم وفاجرهم تبع لفاجرهم. وبذلك ألقى الحجة على سعد، فتراجع سعد عن طلب الأمارة واكتفى بطلب الوزارة، فقال: نحن الوزراء وانتم الأمراء. فاستغل عمر الموقف هذا وقال لأبي بكر: ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك، فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر، فأنت أقوى لها مني. وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبى بكر وقال: إنَّ لك قوتي مع قوتك، فبايع الناس واستثبتوا للبيعة. وتخلّف علي u، والزبير عن المبايعة، ويروى أن الزبير اخترط سيفه وقال: لا أغمده حتى يبايع علي. فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر... إلى آخر الرواية.
هكذا نقل الرواة والمؤرخون هذه الحادثة، بما يوحي أنها حدثت بشكل ارتجالي وعفوي وآني، وما فعلُ أبي بكر وعمر إلّا تداركًا للموقف وحفظًا لكلمة المسلمين من التفرّق، وظلت هذه الحادثة مثار جدل بين المتكلمين من الفريقين على مدى التاريخ الإسلامي ولازالت. 
وعلى إثر هذا الاختلاف جعل الفقهاء والمتكلمون موضوع الخلافة يتمحور حول مبدأين أساسيين هما (النص، والاختيار).
أما مبدأ النص، فقد حسم الإمامية موقفهم منه، وذهبوا إلى أنَّ الخلافة والإمامة (أو نظام الحكم) تنصيب واختيار إلهي، وليست للأمّة نصيب فيها، واستدلوا على ذلك بالأدلة النقلية والعقلية.
أما النقلية، فهي النصوص القرآنية والحديثية، منها قوله تعالى: )إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( التي نزلت في أمير المؤمنين u بعد تصدّقه بخاتمه أثناء الصلاة وهو في حالة الركوع. ومن النصوص الحديثية المتواترة والمتفق عليها من قبل الفريقين (حديث الغدير) الذي قاله النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، حين جمع الحجيج في يوم شديد متوهج القيظ، قبل أن يتفرقّوا ويرجع كل إلى دياره.. وقد نقل الحديث أحمد في مسنده بطرق عدة، منها عن البراء بن عازب في قوله: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد على رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون انى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال: له هنيئًا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة».
وأما الأدلة العقلية، فقد أفاض فيها متكلمو الإمامية في محاجاتهم ومؤلفاتهم، منذ زمن الشيخين المفيد والطوسي (رضوان الله عليهما) وإلى اليوم، وقد أشبعها العلّامة الحلّي (ت: 726هـ) بحثًا في كتابه (الألفين في إمامة أمير المؤمنين)،  الذي حاول أن يجعل فيه ألفي دليل عقلي على إمامة أمير المؤمنين u، ولكن الكتاب حوى على ما يقارب الألف ونيف من الأدلة.
واستدلوا أيضًا على أن الخلافة منوطة باثني عشر إمام معصوم، تبتدئ بأمير المؤمنين u وتنتهي بالإمام الثاني عشر، وهو القائم من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين). أما في زمن غيبته، فإنها منوطة بنائب الإمام المعصوم، والنائب هو الفقيه المجتهد الجامع للشرائط.
وأما مبدأ الاختيار، فقد أخذت به الفرق والمذاهب الأخرى، ونظّر إليه فقهاؤهم ومتكلموهم كثيرًا بناءً على الوقائع التجريبية للحكم بعد الرسول الأكرم، ثم أخذوا يبحثون عن الأدلة التي تؤيد ما ذهبوا إليه، وأخيرًا استدلوا بآية الغار في قوله تعالى: )... ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا...(على صحة تولي أبي بكر الخلافة، على اعتبار أنَّ الصاحب المذكور في الآية هو أبو بكر، وأنَّ في الآية مدح له، وكذا استدلوا ببعض ما نسب إليه من مناقب أبان عصر الصحبة. واتجهوا الاتجاه نفسه في إثبات صحة ولاية الخليفتين عمر وعثمان، من حيث إثبات الصحبة والفضل لهم على بقية المسلمين. وزادت تنظيراتهم في أمر الخلافة وتطورت تماشيًا مع حوادث الحكم في كل عصر، سواء العصر الأموي، أو العباسي، أو ما بعدهما.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون